ثابت العمور
كعادته في الممارسة، كان مفاجئا في الفكر وجريئا في الموقف، صادقا في المكاشفة وصادما في المصارحة، وبمنطق العسكري المشتبك الذي لا يلتفت لدبلوماسية الساسة وحساباتهم ومنطقهم بأن الغاية تبرر الوسيلة. اطل الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الأستاذ زياد النخالة في لقاء مع موقع عربي 21، وقد وفق الموقع مشكورا إذ أتاح المقابلة مصورة ومقروءة.
مباشرة وبلغة سلسة سهلة ودون مواربة بدأ الرجل حديثه بالذهاب "للوعي" ليصل حلقات الفكر المتفرد ببعضها فثالوث الإيمان والوعي والثورة انفردت به حركة الجهاد الإسلامي وحدها منذ أن وضع الشقاقي رحمه الله نواتها، وبموضوعية المتيقن كان تقدير الموقف لديه بأن "ما أحدثته الحرب الأخيرة على قطاع غزة لم يكن انتصارا ولكنه انجاز مهم في طريق تحرير فلسطين". وتتجلى الجرأة في الوصف التالي :" لا أقول عنه انتصار بالطريقة التي يتم الحديث عنها في الإعلام بالمبالغة الكبيرة، لأننا ما زلنا نراوح في نفس المكان ونفس الجغرافيا، وإسرائيل تمارس عدوانها وتفعل كل ما تريده...، إننا الآن في معركة الحفاظ على هذا المكتسب. ويجب أن يظل الناس مقتنعون بالتغيرات التي حصلت".
يذكرني هذا التقدير بتقدير آخر قدمه الدكتور رمضان شلح رحمه الله عقب حرب العام 2014 ففي مقابلة مع مجلة الدراسات الفلسطينية خريف2014، كان تقديره وتوصيفه لحرب 2014 بأنها :" ليست مجرد لحظة عابرة في تاريخ الصراع، وإنما هي محطة تاريخية يجب أن يكون لها أثرها الذي يوازي حجمها على الصعد كافة. ..إننا، وبكل صراحة، لدينا خشية من أن ما يسمى المشروع الوطني، بوضعه الراهن، لا يستطيع أن يستوعب أو يهضم إنجازات أو إيجابيات المعركة، ولا يقوى على مواجهة تحديات ما بعد الحرب، أو التخلص مما خلفته من آثار سلبية من دمار وجراحات... وهذه الخشية نابعة من عمق الأزمة التي يعيشها المشروع الوطني الفلسطيني".
الفارق بين لقاء الأمين العام الثاني لحركة الجهاد الإسلامي والأمين العام الثالث حوالي سبع سنوات تقريبا مرت خلالها المنطقة والقضية الفلسطينية بتحولات وعصفت بها متغيرات عديدة ولكن الملاحظ أن الخطاب والتوصيف والتقدير ثابت لا يتبدل ولا يتغير بتغير المعطيات. بدا الخطاب موغل في الثبات وإجادة القراءة وتقديم الإجابات، ويحيلك إلى معادلة غاية في الأهمية مفادها أن حركة الجهاد الإسلامي ليس مجرد تنظيم عسكري يضع الاشتباك ومشاغلة الاحتلال على قائمة أولوياته بقدر ما هي أيضا حالة فكرية فلسطينية متفردة في الموقف والتوصيف وقراءة المشهد منذ الانطلاقة.
في صيف العام 1988 وتحديدا في مطلع شهر أغسطس أجرت صحيفة الخليج لقاء مع الأمين العام الأول والمؤسس لحركة الجهاد الإسلامي الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، قال فيه : "تشكلت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في مطلع الثمانينات، لكنها بدأت كحوار فكري وسياسي وسط مجموعات من الشباب الفلسطيني الإسلامي المثقف الذي كان يدرس في مصر في منتصف السبعينات.. والتقى كل هؤلاء حول قناعة محددة هي وجود نقاط ضعف في المشروع الوطني الفلسطيني تتركز حول الأيديولوجية السياسية الوطنية نفسها التي استبعدت الإسلام من محتواها الفكري...".
وفي صيف العام 2021 وفي أغسطس أيضا أعادت حركة الجهاد الإسلامي على لسان أمينها العام الثالث توصيف المشهد وتشخيص مشكلاته ولم تكتف بذلك بل قدمت الإجابات الجريئة أيضا، وعن ذلك يقول النخالة :" عندما فقد المشروع الوطني الفلسطيني هويته الحقيقية القائمة على تحرير فلسطين، ذهب إلى تحوير اللغة. أنا أتحدث عن برنامج منظمة التحرير الذي بدأ بفكرة تحرير فلسطين كل فلسطين، وبالتدريج أقنع الفلسطينيون أنفسهم وأوهموا أنفسهم بأنه يجب أن نتكيف مع الظروف الدولية، ونخفض من سقف رؤيتنا.."
وفي توصيف حركة الجهاد الإسلامي للمشروع الوطني الفلسطيني عامة والعلاقة بين مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية بشقيها الوطني والإسلامي خاصة؛ تحضرني هنا إشكالية أكاديمية طُرحت في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1999 لرسالة ماجستير في العلوم السياسية بعنوان "العلاقة بين فتح والإخوان المسلمين في فلسطين"، قدمتها الباحثة شيرين فهمي، وتطرح فيها التالي:" في الوقت الذي قرر فيه الإخوان المسلمين عام 1988 إتباع نهج العمل العسكري والجهادي المقاوم، قررت منظمة التحرير الفلسطينية أن تضع سلاحها، وتتبنى التسوية السلمية"، وتتساءل الدراسة ماذا كان سيحدث لو أن نقطة تحول الإخوان المسلمين من العمل السياسي السلمي إلى العمل العسكري المقاوم حدثت مبكرا، أي قبل تحول عرفات وقبوله بدولة على أراضي 1967".
وما بين ما طرحته الدراسة الأكاديمية المشار إليها وبين توصيف النخالة للمشهد السياسي الفلسطيني مكوناته وتعقيداته تجد الرابط الموضوعي في قول النخالة: "الخلاف في الساحة الفلسطينية هو خلاف على البرامج والرؤى السياسية، وهذا الخلاف انعكس على الميدان. وعند الحديث عن مصالحة نجد أنفسنا أمام معركة برامج ولسنا أمام طرفين اختلفا واختصما وحدث مشكلة بينهما ويمكن أن ينتهي بالتسوية".
أما في توصيفه للمشروع الوطني الفلسطيني واستشراف مآلاته يرى الرجل أن المشروع الوطني الفلسطيني عندما فقد هويته الحقيقية القائمة على تحرير فلسطين، ذهب إلى تحوير اللغة. وتحدث عن برنامج منظمة التحرير الذي بدأ بفكرة تحرير فلسطين كل فلسطين، وبالتدريج أقنع الفلسطينيون أنفسهم وأوهموا أنفسهم بأنه يجب أن نتكيف مع الظروف الدولية، ونخفض من سقف رؤيتنا. هذه الجرأة وهذا الطرح لا يمكن استحضاره إلا في خطاب حركة الجهاد الإسلامي، وهو لم يكن طارئا إطلاقا في خطاب النخالة، ففي الثلاثين من ابريل الماضي وبعدما تلاشت زفة الانتخابات وأعلن تأجيلها إلى أجل غير مسمى تقدم النخالة صوب المشهد وقدم دعوة وطنية شاملة من أجل التوافق على برنامج وطني لمجابهة الاحتلال وقال :" إن ما يجري يؤكد على أن الجهاد والمقاومة ضد العدو الصهيوني هما الحقيقة الثابتة التي على الجميع أن يتعاطى معها بجدية وألا يقفز عنها.. معربا عن رفضه الشديد لمحاولة التعايش مع الاحتلال عبر الانتخابات، مشيراً إلى أن الوقائع السابقة، منذ توقيع اتفاق أوسلو اللعين، أثبتت أن هذه مجرد أوهام كاذبة".
ولم يكتف بالتوصيف ولم يتوقف عند حدود الخطاب بل انتقل حينها إلى خطوة عملية وقدم خارطة طريق من بند واحد فقط ملخصها أننا شعب تحت الاحتلال وعلينا أن نتوافق على برنامج وطني يتناسب مع هذا الفهم، وأن أي خيار آخر هو إضاعة لمزيد من الوقت ومزيد من الجهد.
وفي لقاءه مع عربي 21 أعاد الرجل ذات الطرح لم يمل ولم يتغير الموقف بتغير المعطيات وتبخر الانتخابات وقال:" المفروض أننا نتحدث عن برامج ورؤى وكيف ندير صراعنا مع "المشروع الصهيوني"،..عندما تتحدث عن انتخابات فهذا يعني أنه يوجد دولة مستقلة وشعب حر ويمارس حياته الديمقراطية، وعلينا أن نلاحظ أنه خلال فترة الانتخابات كان الكل يتساءل عما يجري من حملات انتخابية وقوائم ومرشحين وخلافه، فبدا المشهد وكأننا أمام دولة ديمقراطية بامتياز".
أتوقف هنا عند تقنية ومنهجية تحليل الخطاب السياسي وهي منهجية ذات شقين الأول كمي والثاني ضمني، وكنت قد ذكرت أن اللقاء كان مصورا ومكتوبا لأنه لا يمكن تحليل الخطاب كما إلا إذا كان مكتوبا، ففي التحليل الضمني لخطاب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي لا تجد انه مجرد خطاب إعلامي يجب عن تساؤلات بقدر ما هو خطاب موقف وفكر، وهذه سمة قلما تجدها في الخطاب السياسي الفلسطيني، فلو أجريت تحليل مضمون لغالبية الخطابات السياسية الفلسطينية ستجد أنها خطابات موجهة وخطابات اللحظة ويغيب عنها التوصيف الدقيق والموضوعي والوطني والوحدوي والاهم يغيب الفكر والجرأة في تحمل المسؤولية.
وبالتالي نحن هنا أما خطاب أمين عام لحركة إسلامية سياسية فلسطينية بوزن وحضور وفاعلية ومشاغلة يشهدها العدو والصديق، خطاب يقول ويُقر بأنه يجب علينا إعادة قراءة "المشروع الصهيوني"، وأن علينا إعادة قراءة مشروعنا الوطني"، هذه اللغة وهذه المصارحة والمكاشفة ينفرد بها خطاب حركة الجهاد الإسلامي، وعلى الرغم بأن المشهد كان قد خرج لتوه من معركة سيف القدس وما أنتجته وأفضت إليه إلا أن الرجل لم يلتفت للمخرجات الآنية وذهب لأعمق من ذلك عندما جعل قراءة المشروع الصهيوني بدرجة الواجب.
والتفرد هنا بأن الواجب هو قراءة المشروع الصهيوني ثم إعادة بناء المشروع الوطني على أساس القراءة والفهم للمشروع الصهيوني لا القفز لإعلان مشروع وطني فلسطيني دون استحضار مخططات ومقومات المشروع الصهيوني، والنخالة هنا يفض اشتباك فلسطيني تاريخي مزمن إذ أن في قراءة المشروع الصهيوني خارطة طريق لبناء مشروع وطني فلسطيني قادر على مواجهة ما تحيكه الصهيونية بواسطة إسرائيل وتخطط له، لكن ما حدث أن المشروع الوطني الفلسطيني تعرض لانتكاسة تلو الأخرى ولو كنا قد استدعينا المشروع الصهيوني ومخاطره لفهمنا دلالة الإلهاء وكي الوعي التي تعرضنا لها منذ الاستدارة لأوسلو والتسوية والانتخابات والانقسام وان كل هذا التيه هو جزء من مخططات المشروع الصهيوني.
الدعوة لإعادة قراءة المشروع الوطني لم تكن طارئة في خطاب النخالة، ففي الخامس من أكتوبر العام 2018 وفي أول خطاب سياسي للرجل عقب انتخابه أمينا عاما لحركة الجهاد الإسلامي طرح مبادرة "جسر العبور للمصالحة " وإنهاء الانقسام وشملت خمسة نقاط. ابرز ما فيها كان استرداد المصالحة الوطنية لصالح الكل الفلسطيني، فجميع الشعب الفلسطيني ضحية لهذا الخلاف.
لذلك ليس مستغربا أن يأتي ذكر فلسطين والفلسطينيين أكثر من 70 مرة في مقابلة النخالة مع موقع عربي 21، فرغم أن الرجل أمين عام لحركة الجهاد الإسلامي والمقابلة تتعلق بهذا التوصيف وهذا الموقع، إلا أن ذكر حركة الجهاد الإسلامي لم يتعد 10 مرات فقط، في حين أن الحركة الوطنية الفلسطينية ومكوناتها ذُكرت مجتمعة أكثر من 45 مرة. وذكرت كلمة الناس 7 مرات . وعلى الرغم أن حركة الجهاد الإسلامي ليس طرفا في الانقسام بل إن نشأتها كانت من أجل الوحدة الوطنية الفلسطينية فكرا وممارسة ،وبنت نواة طرحها ومبرر نشأتها على الموائمة والملائمة بين الفوارق الفكرية والعملية الموجودة بين الوطنيين والإسلاميين في فلسطين، إلا أن كلمة مصالحة ذُكرت في اللقاء حوالي 10 مرات تقريبا. وحتى هذه أي المصالحة لم تكن طارئة فبعد مبادرة "جسر العبور للمصالحة" بعامين عاد الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في الثالث من سبتمبر 2020 وخلال كلمته في مؤتمر الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، الذي تم بالتزامن في العاصمة اللبنانية بيروت، ومقر المقاطعة برام الله. جدد الرجل طرح مبادرة النقاط العشرة التي سبق وان اقترحها الأمين العام الراحل الدكتور رمضان شلح رحمه الله في العام 2016، كمخرج من الأزمة التي تعصف بالمشهد الفلسطيني الداخلي.
إن واحدة من أهم التوصيفات والمصطلحات التي تكررت في اللقاء وكانت ملفتة هي أن الرجل يُقدم الاشتباك مع الاحتلال كمشروع متكامل وليس مجرد معركة - جاء ذكر الكلمة في اللقاء 7 مرات- أو مرحلة أو بندقية وصاروخ أو مجرد اشتباك ، بل ويقدم هذا المشروع بمرجعية دينية إسلامية حضارية ممتدة لا تقبل المواربة خلف حدود دولة على أراضي العام 67، بل يضع ترمومتر لذلك ويقول "لا قيمة لأي برنامج سياسي يتنازل عن حق الشعب الفلسطيني في كل فلسطين... بذريعة إرضاء المجتمع الدولي والتكيف مع الظروف الدولية"، وعطفا على فهم الرجل للمشروع الصهيوني وضع القدس كصاعق انفجار ممتد فالذي يقول بكل فلسطين لا يوجد في أدبياته قدس شرقية وقدس غربية أو اقتسام للسيادة وتداول، ورمانة الميزان في خطاب الرجل وعرفه بأن "الحديث عن القدس هو حديث عن صراع بين الحق والباطل، وأننا عندما نتخلى عن القدس فهذا يعني أننا نتخلى في الحقيقة عن مشروع الإسلام الحضاري في المنطقة، لأن القدس هي مركز كل شيء".
إن أبلغ ما أشار إليه أمين عام حركة الجهاد الإسلامي في لقاءه بعد توصيفه للمشهد الفلسطيني وتعقيداته ومكوناته، هو إتيانه على ذكر وتقييم تجربة الحركة الإسلامية، فلم يعفه موقعه كأمين عام لحركة الجهاد الإسلامي من انتقاد الحركة الإسلامية بل لم يكن انتقاد لمجرد النقد بل كان نقدا موضوعيا أكاديميا متكامل، وإن واحدة من التحديات التي تواجه الباحثين والمختصين والمهتمين بشؤون الحركة الإسلامية عموما وفي فلسطين على وجه التحديد هو غياب الأدبيات والكتابات والمواقف والأفكار والجمود والخشية من التجديد. وهو عين ما شخصه وأشار إليه الرجل بكل جرأة، في شهادة غير مسبوقة للتاريخ.
ختاما وكواحد من الباحثين المهتمين بالحركة الإسلامية في فلسطين، فإنني لم أجد خطاب إسلامي يقر ويعترف بأخطاء الحركة الإسلامية وأزماتها في الفكر وفي الممارسة، وفي قصور رؤيتها السياسية وهروبها من التطرف إلى المساكنة، وأنها لا زالت تمر بحالة مخاض كبير، مثلما فعل النخالة في لقاءه. فالنقد والتقييم والمراجعة والمكاشفة والمصارحة والمصالحة مع الذات ومع الآخر أهم ما يلزم الحالة الفلسطينية عموما والحركة الإسلامية في فلسطين على وجه التحديد.
إن هذا اللقاء الذي أجراه أمين عام حركة الجهاد الإسلامي وخص به موقع عربي 21، بكل مفرداته وقراءاته وجرأته ومصارحته، هو حالة فكرية وسياسية فلسطينية وإسلامية غير مسبوقة في الخطاب السياسي الفلسطيني عموما وخطاب الحركة الإسلامية في فلسطين على وجه التحديد. وهو في أحد توصيفاته خارطة طريق شاملة يجب التقاطها والبناء عليها للخروج بالمشهد الفلسطيني من هذا المأزق الممتد والمتدحرج في الفكر وفي الممارسة قبل فوات الأوان لا سيما في زمن الهرولة صوب التطبيع.